الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وقرأ ابن كثير وأبو بكر وزيد بن علي وأبو جعفر {سَيَدْخُلُونَ} مبنيًا للمفعول من الإدخال واختلفت الرواية عن عاصم، وأبي عمرو.{الله الذي جَعَلَ لَكُمُ الليل لِتَسْكُنُواْ فِيهِ} لتستريحوا فيه بأن أغاب سبحانه فيه الشمس فجعله جل شأنه باردًا مظلمًا وجعل عز وجل برده سببًا لضعف القوى المحركة وظلمته سببًا لهدو الحواس الظاهرة إلى أشياء أخرى جعلها أسبابًا للسكون والراحة {والنهار مُبْصِرًا} يبصر فيه أو به فالنهار إما ظرف زمان للإبصار أو سبب له.وأيًّا ما كان فإسناد الإبصار له بجعله مبصرًا إسناد مجازي لما بينهما من الملابسة، وفيه مبالغة وأنه بلغ الإبصار إلى حد سرى في نهار المبصر، ولذا لم يقل: لتبصروا فيه على طرز ما وقع في قرينه، فإن قيل: لم لم يقل جعل لكم الليل ساكنًا ليكون فيه المبالغة المذكورة وتخرج القرينتان مخرجًا واحدًا في المبالغة، قلت: أجيب عن ذلك بأن نعمة النهار أتم وأعظم من نعمة الليل فسلك مسلك المبالغة فيها، وتركت الأخرى على الظاهر تنبيهًا على ذلك، وقيل: إن النعمتين فرسا رهان فدل على فضل الأولى بالتقديم وعلى فضل الأخرى بالمبالغة وهو كما ترى، وقيل: لم يقل ذلك لأن الليل يوصف على الحقيقة بالسكون فيقال: ليل ساكن أي لا ريح فيه ولا يبعد أن يكون السكون بهذا المعنى حقيقة عرفية.فلو قيل: ساكنًا لم يتميز المراد نظرًا إلى الإطلاق وإن تميز نظرًا إلى قرينة التقابل.وكان رجحان هذا الأسلوب لأن الكلام المحكم الواضح بنفسه من أول الأمر هو الأصل لاسيما في خطاب ورد في معرض الامتنان للخاصة والعامة، وهم متفاوتون في الفهم والدراية الناقصة والتامة، وفي الكشف لما لم يكن الإبصار علة غائية في نفسه بل العلة ابتغاء الفضل كما ورد مصرحًا به في سورة القصص بخلاف السكون والدعة في الليل صرح بذلك في الأول ورمز في الثاني مع إفادة نكتة سرية في الإسناد المجازي.وقال الجلبي: إذا حملت الآية على الاحتباك، وقيل: المراد جعل لكم الليل مظلمًا لتسكنوا فيه والنهار مبصرًا لتنتشروا فيه ولتبتغوا من فضل الله تعالى فحذف من الأول بقرينة الثاني ومن الثاني بقرينة الأول لم يحتج إلى ما ذكر في تعليل ترك المبالغة في القرينة الأولى، وهذا هو المشهور في الآية والله سبحانه وتعالى أعلم.{إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ} لا يوازيه فضل ولقصد الإشعار به لم يقل المفضل {عَلَى الناس} برهم وفاجرهم {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَشْكُرُونَ} لجهلهم بالمنعم وإغفالهم مواقع النعم، وتكرير الناس لتخصيص الكفران بهم، وذلك من إيقاعه على صريح اسمهم الظاهر الموضوع موضع الضمير الدال على أنه من شأنهم وخاصتهم في الغالب.{ذلكم} المتصف بالصفات المذكورة المقتضية للألوهية والربوبية {الله رَبُّكُمْ خالق كُلّ شيء لاَّ إله إِلاَّ هُوَ} أخبار مترادفة تخصص اللاحقة السابقة وتقلل اشتراكها في المفهوم نظرًا إلى أصل الوضع وتقررها، وجوز في بعضها الوصفية والبدلية، وأخر {خالق كُلّ شَىْء} عن {لاَ إله إِلاَّ هُوَ} [الأنعام: 102] في آية سورة الأنعام، وقدم هنا لما أن المقصود هاهنا على ما قيل الرد على منكري البعث فناسب تقديم ما يدل عليه، وهو أنه منه سبحانه وتعالى مبدأ كل شيء فكذا إعادته.وقرأ زيد بن علي {خالق} بالنصب على الاختصاص أي أعني أو أخص خالق كل شيء فيكون {لاَ إله إِلاَّ هُوَ} استئنافًا مما هو كالنتيجة للأوصاف المذكورة فكأنه قيل: الله تعالى متصف بما ذكر من الصفات ولا إله إلا من اتصف بها فلا إله إلا هو {فأنى تُؤْفَكُونَ} فكيف ومن أي جهة تصرفون من عبادته سبحانه إلى عبادة غيره عز وجل.وقرأ طلحة في رواية {يُؤْفَكُونَ} بياء الغيبة.{كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الذين كَانُواْ بآيات الله يَجْحَدُونَ} أي مثل ذلك الإفك العجيب الذي لا وجه له ولا مصحح أصلًا يؤفك كل من جحد بآياته تعالى أي آية كانت لا إفكًا آخر له وجه ومصحح في الجملة. اهـ.
نسأل الله تعالى أن يجعلنا من الداعين العابدين له بالإخلاص.{اللَّهُ الذي جَعَلَ لَكُمُ الليْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ} ولتستريحوا، فإن الليل لكونه باردًا رطبًا تضعف فيه القوى المحركة، ولكونه مظلمًا يؤدي إلى سكون الحواس، فتستريح النفس والقوى والحواس بقلة أشغالها وأعمالها، كما قال ابن هيصم: جعل الليل مناسبًا للسكون من الحركة؛ لأن الحركة على وجهين: حركة طبع من الحرارة، وحركة اختيار من الخطرات المتتابعة بسبب الحواس، فخلق الليل مظلمًا لتنسد الحواس وباردًا لتسكن الحركة، ولذا قيل للبرد القر؛ لأجل أن البرد يقتضي السكون والحر الحركة.{وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا} أي: مبصرًا فيه أو به، يعني: يبصر به المبصرون الأشياء، ولكونه حارًا يقوي الحركات في اكتساب المعاش، فإسناد الإبصار إلى النهار مجاز فيه مبالغة، ولقصد المبالغة عدل به عن التعليل إلى الحال؛ بأن قال: مبصرًا دون لتبصروا فيه أو به، يعني: أن نفس النهار لما جعل مبصرًا فهم أن النهار لكمال سببيته للإبصار وكثرة آثار القوة الباصرة فيه، جعل كأنه هو المبصر، فإن قيل: فلم يسلك هناك سبيل المبالغة.قلنا: لأن نعمة النهار لشبهها بالحياة أتم، وأولى من نعمة الليل التي تشبه الموت، فكانت أحق بالمبالغة إذ المقام مقام الامتنان؛ ولأن الليل يوصف بالسكون لسكون هوائه وصفا مجازيًا متعارفًا، فسلوك سبيل المبالغة فيه يوقع الاشتباه، كما أشير إليه في الكشاف، ثم إذا حملت الآية على الاحتباك.وقيل: المراد جعل لكم الليل مظلمًا لتسكنوا فيه، والنهار مبصرًا لتنتشروا فيه ولتبتغوا من فضل الله، فحذف من الأول بقرينة الثاني.ومن الثاني بقرينة الأول، لم يحتج إلى ما ذكر.كذا أفاده سعدي المفتي.قال بعضهم: جعل الليل لتسكنوا فيه إلى روح المناجاة والنهار مبصرًا لتبصروا فيه بوادي القدرة.وفيه إشارة إلى ليل البشرية ليسكن أهل الرياضات والمجاهدات فيه إلى استرواح القلوب ساعة فساعة، لئلا يمل من مداومة الذكر.والتعبد وحمل أعباء الأمانة، وإلى نهار الروحانية لجعله مظهرًا للجد والاجتهاد في الطلب والتصبر على التعب، وسكون الناس في الليل على أقسام.أهل الغفلة يسكنون إلى استراحة النفوس والأبدان.وأهل الشهوة يسكنون إلى أمثالهم من الرجال والنسوان.وأهل الطاعة يسكنون إلى حلاوة أعمالهم وبسطهم واستقلالهم وأهل المحبة يسكنون إلى أنين النفوس وحنين القلوب، وضراعة الأسرار واشتعال الأرواح بنار الشوق، وهم يعدمون القرار في ليلهم ونهارهم، أولئك أصحاب الاشتياق أبدًا في الاحتراق: {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ} عظيم.{عَلَى النَّاسِ} بخلق الليل والنهار لا يوازيه فضل ولا يدانيه.{وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ} تكرير الناس لتنصيص الكفر أن بهم بإيقاعه على صريح اسمهم الظاهر الموضوع موضع الضمير الدال على أن ذلك كان شأن الإنسان، وخاصته في الغالب؛ أي: لا يشكرون فضل الله وإحسانه لجهلهم بالمنعم وإغفالهم مواضع النعم؛ أي: رفعة شأنها وعلو قدرها، وإذا فقدوا شيئًا منها يعرفون قدرها مثل أن يتفق لبعض.والعياذ بالله أن يحسبه بعض الظلمة في بئر عميق مظلم مدة مديدة؛ فإنه حينئذ يعرف قدر نعمة الهواء بالصافي وقدر نعمة الضوء. اهـ.
|